• شارك برأيك
    english

    سهيلا .. فلسطينية تنتصر بالإبرة على الفقر والحاجة

    حين يقضي الفقر على حلمك باستكمال الدراسة، وتحاصرك هموم الحياة ومتطلبات الأسرة المغلوب على أمرها وتكون أنت بارقة الأمل الوحيد وشعاع الضوء البازغ من وسط سواد العتمة لا تملك إلا التحدي نهجاً لتحقق حلم راودك منذ نعومة أظافرك بمزيد من الإصرار والصبر الجميل.سهيلا أنهت قبل أسابيع قليلة عامها الخامس والعشرين، لكنك ما إن تبصر ملامحها حتى تجدها في سنا أكثر من سنها الحقيقي ، عيونها كانت حائرة بين كتب الدراسة وماركة التطريز، أما قلبها فلم يملك إلا تسخير عواطفه وحنانه لرعاية أفراد أسرتها الكثر خاصة شقيقيها المعاقين وأمها التي أعجزها مرض السكر عن الابصار جيداً ، الفتاة وجدت نفسها وحيدة مع المسئولية فهي كبرى أشقائها السبعة خاصة بعد وفاة الأب – رحمه الله- قبل اربع سنوات ، باتت الراعي والمعيل الأول لأسرتها ما أدى بها إلى التنازل بدايةً عن استكمال حلمها بمتابعة دراستها في كلية العلوم لتحظى بفرصة عمل تمكنها من الحصول على دخل يوفر الاحتياجات الأساسية من أدوية وقوت يوم لأشقائها الصغار، لكن الأمل ظل نابضاً بقلبها يرنو إلى يومٍ تتحسن فيه ظروف أسرتها لتتمكن من استكمال الحلم أملاً في الحصول على فرصة عمل أفضل توفر حياة فضلى لها ولأسرتها التي وهبتها وستهبها سني عمرها ولن تبخل عليها بروحها على حد تعبيرها.الفتاة لم تملك من الخبرات العملية الكثير لتؤهلها للعمل في إحدى الوظائف فقط بعض دورات الكمبيوتر والكثير من الشغف للعمل في مجال التحاليل الطبية ، لكنها لم تنه تفاصيل دراستها للتمكن من العمل في إحدى المختبرات الخاصة أو العيادات الرسمية بالوطن فمازالت في بداية الطريق بالسنة الدراسية الثانية حين أرغمتها الظروف على ترك مقعدها الدراسي، فقط كانت تملك هواية بصنع المطرزات التراثية بحمرة الورد المخملي وهنا كانت بداية مشوار التحدي واستكمال الأمل والحلم.

    آلام وحدة يبددها تحدي وإصرار

    والحكاية يروي تفاصيلها قلبها النابض بالأمل المصر على الفرح كلما سنحت له الفرصة لذلك، تقول :"عندما توفي والدي كنت في بداية السنة الدراسية الثانية بالجامعة، كنت أشاركه تحمل المسئولية في الإجازة الصيفية بالعمل نظراً لاحتياجاتنا الكثيرة بفعل ظروف اثنين من أشقائي ومرض والدتي الذي أعجزها شيئاً فشيئاً عن البصر، لكن برحيله وجدت نفسي وحيدة تعصف بي رياح الحزن من جهة ورياح الفقر والحاجة من جهة أخرى ومن جهة ثالثة عواصف ضياع الحلم باستكمال الدراسة " ، وتضيف :" فترة قليلة من الحيرة انتابتني سرعان ما بددها تحدي وجَلَّد وصبر غمرني به الله، وكان الاتجاه الأول لممارسة العمل من داخل أقبية منزلنا المتواضع لأتمكن من مراقبة أشقائي ومتابعة أمور المنزل وأيضاً رعاية أشقائي ذوي الاحتياجات الخاصة، ولم أجد أنسب من امتهان التطريز لأستطيع توفير دخل جيد يوفي باحتياجات أسرتي بالإضافة إلى ما يساعدني به أقاربي الميسورين، عمدت إلى تأجيل الدراسة قليلاً وانغمست في العمل أطرز بلون الورد المخملي وسادات صغيرة لتزيين أطقم الكنب ومفارش تتمازج فيها ألوان قوس قزح تضفي بهاءً وجمالاً للأثاث الذي تغطيه مهما كان بسيطاً متواضعاً بالإضافة إلى الحقائب وحافظات النقود ولا سيما حافظات الهواتف النقالة التي يقبل عليها الزبائن بكثرة " .

    رحلة جديدة مع الأمل

    لم تفقد الفتاة يوماً الأمل باستكمال المشوار الذي بدأت خطاه قبل عامين فقط أجلته ولم تلغيه، ثلاث سنوات من العمل والاجتهاد لتوفير قوت يوم أسرتها واحتياجاتها الأساسية، كانت خلالها تدخر كلما استطاعت بعضاً من مصروفاتها الأقل ضرورة وإلحاحاً لتعود أدراجها إلى الدراسة كما تقول ، وتسترسل في الحديث عن هذه الفترة موضحة أن أمر الإدخار جاء بعد توسع نشاطها وتسويق منتجاتها المطرزة على المؤسسات المعنية بحفظ التراث الفلسطيني مؤكدة أنها في البداية كانت تبيع مطرزاتها للأهل والجيران الذين ينبهرون باتقانها للقطع المطرزة وروعة تصميمها وتناسق وانسجام ألوانها وتآلف خطوطها الحريرية .منذ البداية لم تعمد إلى تقاضي أجر عال على مشغولاتها اليدوية فقط تتقاضى ثمن المواد الخام وربحا زهيدا لكنه يعينها على توفير الاحتياجات الضرورية لأسرتها مع القليل من المواد الإغاثية التي يتلقونها من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين كغيرهم من اللاجئين في المخيمات الفلسطينية.سارت تفاصيل حياة الفتاة على وتيرة هادئة توفر ضروريات أشقائها وتتابع تعليمهم وتبث الصبر في نفوسهم وتستمد منهم الكثير من القوة والصبر والتحمل تساعدها في ذلك والدتها التي تمدها بالدعم النفسي والمعنوي الذي يجعلها تحلق مع طيور الربيع على الأشجار المثمرة زهراً وفلاً، عام كامل امضته تبيع منتوجاتها من التطريز للأهل والأقارب حتى نقلته إحداهن إلى عملها في مؤسسة نسوية بمدينة غزة زميلاتها أعجبن بالحقيبة المطرزة وكان السؤال عن مصدرها وكان الخير الوفير واتسعت دائرة الرزق كما تقول سهيلا فالمؤسسة تعني بالدرجة الأولى بالمشغولات اليدوية وتهتم بمساعدة النسوة التي قضت ظروفهن بإعالة أسرهن قمت بزيارتها مصطحبة بعض المشغولات وكان الاتفاق على تسويق ما أنتجه عبر معارض تشارك بها المؤسسة محلياً وإقليماً ، تقول سهيلا :" الحمد لله منذ ذلك الوقت عمدت إلى إدخار جزء أكبر لأوفر الرسوم الدراسية للعامين المتبقيين لي في الجامعة وبعد ثلاث سنوات من العمل الشاق والمضني والانكفاء على الماركة والإبرة بصحبة الخيوط الحريرية استطعت أن أنأى بأسرتي عن خط الفقر قليلاً فأشقائي الصغار تقدم بهم العمر وأصبح أحدهم وهو حسين في الثامنة عشر من عمره يشاركني المسئولية يعمل في الإجازة الصيفية ويدرس بالجامعة أيضاً و أصحبت أعتمد ايضا على شقيقتى نيرمين لتعتني قليلاً بأمور أشقائنا إبراهيم وفاطمة اللذان يعانون من إعاقة جسدية نتيجة مرض وراثي بحكم القرابة بين والديّ " .

    العودة إلى الدراسة

    عادت الفتاة بكثير من الجد والاجتهاد إلى مقعدها الدراسي الذي غادرته قسراً قبل ثلاث سنوات من العمل والعناية بأسرتها التي لم تبخل عليها ولن تبخل بأي تضحية أخرى فهي سر وجودها على حد تعبيرها.تقول :" لم أكن قد هجرت دراستي خلال السنوات الثلاث الماضية من العمل بل كنت أحاول في أوقات فراغي القليلة أن أسترجع المعلومات وأجعلها حاضرة في عقلي ليقيني أن يوماً ستسنح لي الفرصة بمتابعة دراستي " ، وتضيف :" حينما عدت تفاجأ بي الأساتذة، كانت مفاجأتهم مغلفة بالاحترام والثناء وهذا شجعني أكثر على المواصلة بذات الجد القديم ولم أتنازل عن معدل 85% خلال الفصلين الماضيين لكني أطمح إلى التخرج هذا العام بتقدير امتياز لتدعم فرصتها في الحصول بعد التخرج على وظيفة مناسبة "، مؤكدة أنها لا تملك من مقومات الحصول على وظيفة إلا خبراتها العلمية وكفاءتها العملية وتأمل أن تؤهلها للحصول على وظيفة تضمن لها ولأسرتها مستقبلا آمنا لا يشوبه تخوفات الفقر أو الضياع من جديد.