• شارك برأيك
    english

    في بيوت غزة المحاصرة..أثواب ترقع وأطفال بلا مصروف

    لم تبدو يوما شوارع مخيم الشاطئ التي ألفتها أكثر كآبة من هذه الأيام فبدت شوارعها الضيقة وكأنها ازدادت ضيقا، وضاقت ذرعا بساكنيها ، ربما كان المخيم دوما رمزا لتعاسة وشقاء اللاجئين الفلسطينيين ، ربما تغير الزمان وتغيرت ملامح المكان فبيوت المخيم تطاولت وارتفعت، والشوارع ازدادت هلعا من ساكنيها فانكمشت..ولكن ملامح الفقر والبؤس مازالت كما هي وربما ازدادت , فلم يعد مبلغ هم اللاجئ الحصول على "كرت المؤن" فمتطلبات حياته كبرت مع توسع حاجيته ، وأصبح العجز هو سمة الحياة على وجوه شباب لم يجدوا سوى شوارع المخيم وأزقته مكانا يلجئون إليه ليقضوا سهرهم وسمرهم بعد أن أصبحت جيوبهم الخاوية علامة من عدة علامات يستدل بها على مواطني قطاع غزة..ففي بلد تجاوزت فيه نسبة الفقر أعلى معدلاته في العالم توجب ذلك أن تتحول حياة ساكني مخيم اللاجئين إلى بؤس وشقاء، ومع حصار شدد الخناق على أناس كان مبلغ همهم إيجاد قوت أطفالهم، ناسين ومتناسين كافة الكماليات التي حللت على شعوب العالم فأصبح من الطبيعي أن تشاهد مناظر لم تخطر على بال أحد..عائلة أبو محمد شريم إحدى عائلات مخيم الشاطئ التي أكل الدهر وشرب على منزلهم فأصبح مجرد حجار تؤويهم لا تكاد تمنع عنهم حر الصيف ولا برد الشتاء، فبناء البيت بقي كما سلمته لهم وكالة الغوث قبل ما يقارب الأربعة عقود، ليجتمع فيه أكثر من ثمانية عشر فردا.أبو محمد وأخيه وزوجتهما وأولادهما ووالديهما يتقاسمون البيت المكون من أربعة غرف ، الحصار حرم أبو محمد وأخيه من مصدر دخلهما حيث كانا يعملان في مصنع "الخياطة"، فبعد حصار شل حركة البيع والشراء في قطاع غزة توقفت عشرات مصانع الخياطة في غزة عن العمل، والتحق عمالها يركب العاطلين عن العمل.وتشير أم محمد وهي تمسك طفلها الرضيع بين يديها إلى أن أبنائها نسوا معنى أن يكون على طعامهم اللحم، قائلة:" أصبحت اللحمة من النوادر التي من الممكن أن تدخل بيتنا وربما لم يعد أطفالي يتذكرون شكل الفاكهة فمع ارتفاع أسعارها تمر مواسم الفاكهة وأطفالي يطلبونها ولكن ما باليد حيلة".وقالت: " أحمد ابني الأكبر في المرحلة الثانوية يكتفي بمصروف "شيكل" وأحيانا لا يطلبه إذا رأى أن أوضاعنا لا تسمح ، أما الآخرون يكتفون" بنصف شيكل "، مشيرة إلى أن الأطفال لم يفهموا بعد معنى الفقر فهم مازالوا يطلبون ويتطلعون إلى غيرهم من الأطفال.وتطلعت بحسرة إلى بناتها اللواتي أصبحن في سن المراهقة وقالت: " مر علينا عيد الفطر ولم أشتر لواحدة منهن ملابس جديدة أرى في أعينهن نظرات الحسرة عندما ينظرن إلى غيرهن من الفتيات في المدرسة "، موضحة " هاهي حقائبهم المدرسية منذ سنتين لم أجددها لهم وكلما تمزقت أحاول أن أصلحها بالإبرة والخيط ".أطفال أبو محمد شريم ليسوا الوحيدين الذين ذاقوا معنى الفقر، ففي الصباح وحين يتوجه أطفال المخيم إلى مدارسهم اعتاد المئات منهم على شطب كلمة "مصروف" من قاموسه ، وربما استطاع بعضهم بعد ارتفاع سعر الدقيق والكثير من المواد التموينية إلى شطب كلمة "ساندوتش" من قاموسه أيضا فبعض لقيمات قبل خروجه من البيت تكفيه ليصبر حتى يعود..ولكن حتى بين جنبات المخيم تختلف الطبقات والفئات فهناك المعدم وهناك الميسور الذي يستطيع مع كثير من العناء وقليل من الراحة أن يوفر طعام أطفاله وهناك من يمتلك مالا يكفيه لأن يشتري لأطفاله بعض الكماليات التي تعتبر عند البعض من أساسيات الحياة ، فتراه يعود لبيته حاملا كيس أسود اللون به بعض حبات الفاكهة ليفرح بها أطفاله ، ويصر على أن يكون الكيس أسودا حتى لا يجرح مشاعر من لم يستطيعوا الحصول على مثل هذه الرفاهية ويبقى على الأطفال الأقل حظا التلمظ بشفاههم الصغيرة عند رؤية قشور الفاكهة في قمامة جارهم وأبنائه الأكثر حظا .يشار إلى أن نسبة الفقر وصلت إلى أعلى مستوياتها في قطاع غزة بعد الحصار الذي فرض على القطاع ، ويظهر معهد الدراسات في تقرير اقتصادي نشر في وقت سابق إنه على الرغم من المعونات الإنسانية والتموينية المقدمة لقطاع غزة مازالت تعيش 70 بالمائة من الأسر الفلسطينية تحت خط الفقر وان حوالي 42 بالمائة من الأسر تعيش في فقر مدقع.وأضاف التقرير: أن أعلى معدلات الفقر تركزت في محافظات شمال غزة وخان يونس بنسبة 73 بالمائة و75 بالمائة على التوالي، علما بأن 66 بالمائة من الأسر عانت من انخفاض دخلها خلال النصف الأول من عام 2007.وأوضح التقرير أن 53 بالمائة من الأسر الفلسطينية التي تعاني من الفقر المدقع و45 بالمائة من الأسر الواقعة تحت خط الفقر لا تتوافر لديها آليات بديلة للتأقلم مع الوضع الراهن وأن نسبة 49 بالمائة من الأسر الواقعة تحت خط الفقر بالكاد تستطيع أن تتدبر أمورها الحياتية اليومية.في بداية الحصار كان البعض يرى أن الحصار يعني انقطاع " الكوكاكولا والبيبسي"، ولكن جولة في مخيم كمخيم الشاطئ جعلتني اعرف أن الحصار يعني أن عشرات المصانع أغلقت أبوابها وعشرات المشاريع توقفت ، والناتج آلاف العمال انضموا إلى آلاف عمال سبقوهم وفقدوا مصدر دخلهم الوحيد.وبالتالي آلاف الأطفال حرموا من حياة طبيعية ، فهاهي " الرقعة" تزين بناطيلهم المدرسية، فالأب لا يملك مالا كافيا ليشتري لكل واحد منهم لباساً مدرسياً جديداً كل عام ، وهاهي حقائبهم المدرسية الممزقة تحمل كتبا لا يوجد فيها درساً واحداً يشرح لهم لماذا عليهم أن يكونوا فقراء؟؟! ولماذا عليهم أن يبيعوا طفولتهم مقابل رغيف خبز وبضع شواقل قد يحصلون عليها إن أحسنوا عملا ؟؟!.